الرحمة كتطبيق عملي للنعمة (Mercy: Grace in Action)
“فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ.”(رومية 12: 1).
” بِرَأْفَةِ اللهِ” – من منظور رحمة الله – من أي منظور آخر يمكن للمسيحي أن ينظر إلى حياته ومسؤولياته؟ لقد أختبرنا رحمة الله بكل عمقها وغناها. نحن الذين كنا أعداء الله، نحن الأشرار وغير المستحقين – تصالحنا مع الله بموت أبنه الحبيب. يا لها من رحمة! يا لها من نعمة!
بالنظر إلى حقيقة أننا تصالحنا، يجب أن نعيش حياة التصالح. في ضوء (من منظور) أختبارنا لمحبة الله ، يجب أن نعيش حياة محبة. في ضوء (من منظور) مغفرة الله لنا، يجب علينا أن نغفر. “من منظور رحمة الله” ، يجب أن نكون دائمًا رحماء.
بعبارة أخرى، يجب أن تعكس حياتنا اليومية طبيعة وميزة النعمة والرحمة التي أظهرها الله لنا. المواقف التي أظهرها الله الرحيم تجاهنا هي المواقف التي يجب أن نتخذها تجاه زملائنا. قد يكون خير مثال على حياة المصالحة هو ميزة الرحمة. قال يسوع: “طوبى للرحماء، لأنهم يُرحَمون” (متى 5: 7). كيف نكون رحماء؟
كيف لنا نحن الذين رأينا رحمة الله أن نرحم الآخرين؟ هذه هي الأسئلة التي نسعى للإجابة عليها في هذا الفصل.
الرحمة: يحركها البؤس
التعاطف شكل من أشكال الرحمة. يُطلق على العديد من المستشفيات اسم “مستشفى الرحمة” ، مما يشير إلى التعاطف مع المرضى ومعاناتهم. الصّدَقة هي مسار آخر للرحمة. لذلك يصرخ المتسول: “أرحم رجلاً فقيرًا”. العفو عن مجرمين يمكن أن يظهر إذا هيئة المحلفين أوصت بالرحمة.
هذه الأمثلة على الطريقة التي نستخدم بها كلمة رحمة تبين لنا أن الرحمة هي أهتمام بأحتياجات الآخرين. أن تكون رحيمًا معناه أن تتأثر بعمق عاطفياً من البؤس الذي تراه.
هناك الكثير من البؤس في العالم. ومن ثَمَ هناك فرصة دائمة لإظهار الرحمة. الفقراء والجياع والمرضى والمدمنون والمظلومون يعانون من البؤس الجسدي. أما البؤس الروحي فهو أكثر وفرة. الجموع مثقلة بالذنب والخوف من الموت. إنهم يعَذَّبون من الشعور بالوحدة والفراغ واللامعنى لحياتهم.
يجب أن يتأثر المسيحي بهذا البؤس، كما تأثر المسيح بالبؤس من حوله (متى 9: 36 ؛ 14: 14) الرحمة واللامبالاة لا يتوافقان. يتم تعريف الحب المسيحي الحقيقي (agape) بدقة على أنه الأهتمام والرحمة والعناية. يقول بولس: “المحبة يجب أن تكون صادقة” (رومية 12: 9). كيف يمكن أن تكون صادقة إذا كان إدراك البؤس حولنا لا يملأنا بألم داخلي و معاناة بسبب مودتنا لهم؟ كيف تكون صادقة إذا لم نتحرك لمحاولة تخفيف البؤس؟
يجب أن نسعى جاهدين لتنمية حنان وشفقة حقيقيين تجاه معاناة الآخرين. يجب أن نهتم حقًا لدرجة البكاء. يجب أن نكون قادرين، كما يقول بولس: “فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ.” (رومية 12: 15). يجب أن نتأثر بعمق بالبؤس الذي حولنا.
هذه رحمة، وهذا النوع من الرحمة هي التي ميزت المسيحي عن العالم. إنها فضيلة مسيحية خاصة. قبل أن تُحدِث المسيحية ثورة في العالم، كانت الرحمة غير معروفة عمليًا. إن مؤسسات الرحمة اليوم رغم كونها علمانية ، هي نتاج تعليم مسيحي عن الرحمة.
إن المسيحي بصفته إنسانًا رحيمًا حقًا، يتأثر بعمق بكل أنواع البؤس. النشطاء الأجتماعيون اليوم مذنبون بالتركيز على جانب واحد وهو البؤس الجسدي والأجتماعي. عادة ما يتجاهلون الأحتياجات الروحية والبؤس الروحي، والتي هي في الواقع أكثر أهمية لأنها مصدر للبؤس الآخر.
من ناحية أخرى، قد يكون الكثير منا مذنبين بالتركيز على جانب واحد لكن في الأتجاه الآخر. نحن نركّز على المعاناة الروحية ولا نشعر بالحاجة إلى الأهتمام بالبؤس الجسدي. هل يمكن أن يكون الناشطون الأجتماعيون يقومون فقط بملء فراغ تركته الكنيسة؟
كمسيحيين يجب أن نؤكد من جديد واجبنا في أن نكون رحماء. مسؤوليتنا الأساسية هي الإحسان تجاه زملائنا المسيحيين: “مُشْتَرِكِينَ فِي احْتِيَاجَاتِ الْقِدِّيسِينَ، عَاكِفِينَ عَلَى إِضَافَةِ الْغُرَبَاءِ.” (رومية 12: 13). لكن الرحمة تتجاوز حدود الكنيسة: “فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ.” (رومية 12: 20).
يمكن للجماعة المحلية أن تجد طرقًا لإظهار الرحمة ولتخفيف البؤس داخل وخارج الحي الذي هم فيه. يمكن للمسيحيين أختيار مِهَن لأظهار الرحمة، مثل الإرشاد أو الطب أو التمريض أو الخدمة أو العمل الاجتماعي.
لنتذكر أن البؤس الروحي هو الأكثر خطورة ويجب أن يكون الشغل الشاغل للمسيحيين والكنيسة. إن مساعدة المذنبين على أختبار رحمة الله هو هدفنا النهائي وأفضل تعبير عن رحمتنا لهم.
الرحمة: تحررتَ لتغفر
والرحمة في أقوى صورها هي المغفرة ، وإظهار التعاطف واللطف لكل مَن ظلمنا. إن القلب الرحيم قادر على أن يضع جانباً كل أفكار الأنتقام وأن يغفر بصدق للمخطئين.
لدينا هذه الوصية: “بَارِكُوا عَلَى الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ. بَارِكُوا وَلاَ تَلْعَنُوا.” (رومية 12: 14). كيف يمكننا أن نفعل أقل من ذلك ونحن نتذكر أننا قد غَفر لنا الله الذي أخطأنا ضده؟ “وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ.” (أف 4: 32).
المسيحي لا يحيا بمبدأ “العين بالعين”. هذا هو مبدأ العدل. ويجب تطبيقه من قِبَل المحاكم وليس من قِبَل الفرد. يعلّمنا يسوع، “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا.” (متى 5: 39). كما قال بولس، “17 لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ. 18 إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ. 19 لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ.”(رومية 12: 17 – 19). (إحدى الطرق التي يمارس بها الله أنتقامه هي من خلال السلطات المدنية ؛ انظر رومية 13: 1-4).
لا نحمل ضغينة ولا نسعى للأنتقام. يجب أن لا نرغب في “تحقيق المساواة” أو رؤية الجاني يعاني ظلماً.
من التعاليم المسيحية المهمة أن الرحيم وحده هو الذي ينال الرحمة. أي أن الذين لا يغفرون لن يُغفَر لهم. يقول يسوع، يجب أن نصلي من أجل المغفرة فقط بعد أن نغفر للآخرين (متى 6: 12). “فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلاَتِكُمْ.” (متى 6: 14-15).
يقول يعقوب أن “لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً، وَالرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ.” (يعقوب 2: 13). يُوضِّح مَثَل يسوع عن العبد غير الرحيم (متى 18: 21-35) هذه النقطة بوضوح تقشعر لها الأبدان.
هل هذا يبدو قاسياً جداَ؟ هل يبدو أن هذا مخالف لمبدأ النعمة والرحمة؟ ليس عندما نتذكر أن الرحمة والمغفرة هما جوهر المسيحية. إنها طريق الصليب. إن عدم مسامحة حتى أقسى الإهانة يتعارض مع طبيعة المسيحية ذاتها، بحيث لا يمكن للمرء أن يكون مسيحياً إذا كان لديه روح لا ترحم. الشخص الذي يستمر في هذه الروح التي لا ترحم قد فَقَد الغرض الحقيقي من الصليب. الشخص الذي لا يستطيع أن يغفر لا يعرف ما معنى أن يُغفَر له.
قال رجل مرة لجون ويسلي ، “أنا لا أغفر أبدًا.” أجاب ويسلي ، “ثم أتمنى سيدي، أن لا تخطئ أبدًا.”
إذاً، فإن الاختبار النهائي للرحمة هو أن تكون دائمًا حرًا ومستعدًا لتسامح أي شخص أساء إليك. هل أنت رحيم؟ أم أن روحك ما زالت عالقة ومغطاة بقيود الثأر والأنتقام؟ هل تشعر دائمًا بضرورة التعامل بالمثل مع شخص يهينك أو يؤذيك؟ أم روحك خالية من هذا العبء المستعبِد؟ هل أنتَ حُر في أن تسامح؟
الرحماء مُبارَكون حقًا. “اَلرَّجُلُ الرَّحِيمُ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْقَاسِي يُكَدِّرُ لَحْمَهُ.” (أمثال 11: 17).
الرحمة: كرم وسخاء أسمى من العدالة
ليس من السهل أن تُنَمّي قلبًا رحيمًا. كثيرًا ما نرى شخصًا في حالة بؤس حقيقي ونصرخ، ” هو جلبها على نفسه. إنه يستحق ذلك. إنها فقط عدالة”. وربما هذا صحيح. قد نُشير إلى مدمن على الكحول أو إلى أم حامل غير متزوجة أو إلى مدمن مخدرات.
كم مرة يُسئ لنا أحد ونتردد في مسامحته ومعاملته بلطف؟ نقول: “إنه لا يستحقها”. وربما بالفعل لايستحقها.
بعبارة أخرى، يتمتع معظمنا بإحساس قوي جدًا بالعدالة. نحن نعلم ما هو الصواب و ما هو العدل. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل من السهل جدًا الأنجذاب والأدمان على مسلسلات الرسوم المتحركة أو المسلسلات التلفزيونية أو الأفلام الغربية أو حتى المصارعة التلفزيونية. تتضمن هذه عادة أوغاد، ونريد أن نرى الأشرار “يحصلون على ما سيأتي عليهم”.
يكون إحساسنا بالعدالة هو الأقوى عندما نتعرض نحن للإساءة، وعندما تُنتَهك “حقوقنا”. نطالب بالعدالة! سننال حقوقنا! سوف نجعل الجاني يدفع الثمن! لذلك نبدأ في مهاجمته أو إذلاله أو المطالبة بأعتذار. إنه فقط عدل.
هذا صحيح: قد يستحق المدمن أن يعاني من آلام الانسحاب. صحيح أنه جاء بها على نفسه وهو مستحق. صحيح أن الوغد لا يستحق مسامحتنا.
ولكن مَن قال إن المسيحي يجب أن يكون عادلًا فقط؟ من قال أننا يجب أن نُعامل الناس فقط كما يستحقون؟ أقتداءً بمثال يسوع وتعليمه، المسيحي يجب أن يكون أكثر من عادل. يجب أن نكون كرماء فوق العدالة. هذه هي الرحمة. هذه هي النعمة تطبيقياً.
ليس لدينا الحق في الأستمرار في الحديث عن حقوقنا. يجب أن نغفر. بالتأكيد إنه لا يستحق ذلك – ولكن هذه هي الرحمة. أخذ الحق هو عدل، لكن اللطف والغفران هما الطريق الرحيم، على الطريقة المسيحية.
الرحمة: منقادة بالله
سؤالنا الآن يمكن أن يكون فقط “كيف؟” كيف نحقق هذا التصرف أو موقف الرحمة؟ يبدو أنه يفوق قدرة الإنسان!
في الواقع، إنه يفوق قدرة الشخص الخاطئ على أن يكون رحيمًا. لا يمكننا تحقيق هذا الهدف إلا عندما نسمح لأنفسنا بأن يقودنا الله. لا يمكننا أن نكون رحماء إلا عندما نتبع مثال الله بقوة الله.
يقول يسوع ” فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ. ” (لوقا 6: 36).
وحده الله ” غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ ” (أف 2: 4) يمكن أن يكون معيارنا. يجب أن لا ندَعْ العالم يُخبِرنا كيف نتصرف أو حتى يُعرّف لنا الرحمة. المعيار يجب أن يكون فقط الله وكلمته.
إن المعيار هو سامي حقًا، ومن المستحيل الوصول إليه إذا كان الشخص خارج المسيح. ولكن يمكن للمسيحي أن يتعلم أن يكون رحيمًا، ليس بقوته الخاصة ولكن بقوة الروح القدس الساكن فيه (أف 3: 16 ؛ فيلبي 2: 13).
فليستخدم أولئك الذين تصالحوا مع الله هذه القوة، أرحموا حتى الأعداء، وأظْهِروا للعالم غير المؤمن ما أجمل أن تكون عليه حياة المصالحة.
Leave a Reply
شاركنا رأيك | Share your thoughts
You must be logged in to post a comment.